قال البخاري: حدَّثنا محمد بن المثنى: قال: حدَّثنا عبدالوهاب الثقَفي، قال: حدَّثنا أيوب، عن أبي قلابة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ثلاث مَن كُنّ فيه وجَد حلاوة الإيمان: أن يكونَ الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يُحب المرء لا يُحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يلقى في النار))[1].
هذا الحديث مؤيِّد لأحاديث أخرى تنصُّ على أن حُبَّ الله ورسوله لا يكتفى منه بأصل المحبة، بل لا بُدَّ أن تكونَ محبتهما فوق كلِّ محبة..
وسنُبيِّن هنا الفوائد والنتائج المترَتِّبة على تحقيق ذلك الحب، فنقول:
الفائدة الأولى: قوله: ((وجد حلاوة الإيمان)) فيه استعارة؛ لأنه شبَّه رغبة المؤمن في الإيمان بشيء حلْو، يثبت معنى استطابته والرغبة فيه، فكأنه ميَّز هنا بين فم الصحيح والمريض؛ فالفم الصحيح يتذوَّق الشيء على حقيقته، فيجد حلاوة الحلو كما هي، والفم المريض يكون فيه الحلو مرًّا.
فالمسلمُ المؤمن بالله العالِم به، إذا تعلَّق قلبُه بالله، وانشغف بحبه وحب رسوله حبًّا أعظم من حبه لنفسه وولده والعزيز عليه، يستعذب فِعْل المأمورات، ويَتَلَذَّذ بها، ويفرح بتَرْك المنهيَّات أو فواتها، كما يفرح العاشق المتيم بقضاء مطالب محبوبه، ويتلذذ بما فيها من متاعب، ويفرح إذا اجتنب ما يسخط محبوبه، أو حِيلَ بينه وبين ما يسخطه، حتى إنَّه يَتَلَذَّذ بدفْع المال في سبيل الله ويستحليه، بل ويتلذَّذ بالجهاد ويحبه مع كونه مكروهًا للنفوس، ويتمنَّى أن يقتل هو وأولاده في سبيل الله؛ لأنَّ في ذلك محبة لمحبوبه العظيم ونُصرة لدينه، وقد يستعجل هو الموت في سبيل الله، فيحمل على أعداء الله، راجيًا نَيْل الشهادة كما جرى مِن عمير بن الحمام[2] وغيره يوم بدر.
والقارئ الكريم لَم ينسَ قصة الخنساء التي عملت ما عملت من الحزن والرثاء لأخيها صخر الهالك في الجاهلية، وعظيم فرحتها باستشهاد أولادها في الإسلام[3]، ولو أن المسلمين على كثرتهم في هذا الزمان ذاقوا حلاوة الإيمان المنَوَّه عنها في هذا الحديث الشريف، لما غلبهم غالب، ولا كان في الدنيا مَن يَتَبَوَّأ الصدارة سواهم، بل لو كان بعضُهم على هذه الحال، لأقاموا الدُّنيا وأقعدوها، وأراحوا أهلها من حكم الكفر؛ فحقَّقوا الحاكمية فيها لله وحده، ولكن لَمَّا فُقِد الحب الصحيح، وانطفأتْ نار الغيرة من القلوب، فُقِدت حلاوة الإيمان بسبب المرض الذي حل في القلوب، فانعكس الأمرُ، وصار الحلو الشهي مُستكرهًا، وأصبحتْ أوامر الله ثقيلة، وأحكامه قاسية، وشريعته مُستَهْجنة، لا تُساير التطوُّر فيما يزعمون، مما هو في الحقيقة إلحاد في أسمائه، وشِرْك في توحيده، وتعطيل لأحكامه، أعظم من شِرْك الوثنيين؛ لأنَّ تعطيل حُكم الله وأوامره أعظم أنواع الشِّرْك.
نعم، بهذه الحال التي بلغوها مِن اتباع الهوى، وعبادة الشهوات، حلَّ بهم الذُّل والهوان في كل مكان، وتسلطتْ عليهم شياطين الإنس وطواغيتها بشتَّى ضُرُوب التسلُّط جزاءً وفاقًا، وما الله بظلاَّم للعبيد.
الفائدة الثانية: هذا الحُبُّ المنصوص عليه في الحديث هو الحب العقلي، وفسره البيضاوي بأنه: إيثار ما يقتضي العقل السليم رجحانه، وإن كان على خلاف هوى النفس، كالمريض يعاف الدواء، وينفر عنه بطبعه، ولكن يميل إليه بمقتضى عقله؛ فيهوى تناوله.
أقول: ولا شك أنَّ أهواء النَّفس هي أمراض مختلفة يُبْتلى بها الإنسان، وعلاجها وشفاؤها أوامر الله وشرعه، وهي ثقيلةٌ على النفوس، لكن من كمل إيمانه بالله، ووقر في قلبه حبه وتعظيمه على فضله وجوده وإحسانه المتواصل، وعظيم ملكه، وسعة علمه، واستيقن بوعْده ووعيده، وأنه لا مانح ولا مانع في الحقيقة سواه، وأن ما عداه فهم وسائط مُسَخَّرة بأمره، وأن رسوله هو المبين للهداية، والمنقِذ من الضلالة، مَن كان هذا إيمانه فمحبتُه لله تجعله يُعالج أهواء نفسه، ويقاومها بطاعة الله وتحكيم شرعه، الذي هو دواء لأمراض الهوى، فيميل إليها ميل المحب إلى محبوبِه، ويجد لها حلاوة حال فعلها، وحُسن عاقبة في مآلِها.
قال البيضاوي: "إذا تأمَّل المرءُ أنَّ الشارعَ لا يأمر ولا ينهى إلا بما فيه صلاح عاجل، أو خلاص آجل، والعقل يقتضي رجحان ذلك، تمرن على الائتمار بأمره؛ بحيث يصير هواه تبَعًا له، ويتلذَّذ بذلك الْتِذاذًا عظيمًا.
إذًا الالتذاذ العقلي: إدراك ما هو كمال وخير مِن حيثُ هو كذلك، وعبَّر الشارع عن هذه الحالة بالحلاوة؛ لأنها أظهر اللذائذ المحسوسة"، فيعالج أمراض الهوى بالتوجُّه إلى الله بكُليته، فلا يحب إلا ما يحبه الله الذي هو أكبر محبوب له وأعز، فيستشفي بطاعته، ويتلذَّذ بمُزاولة أوامِره، حتى يكونَ الجهادُ في سبيله غاية أمانيه، ولذة قلبه، فيحصل على عونِه ومدَده، ونصرته على أعدائه في جهاد النفس الذي هو مُقاومة الهوى، أو جهاد الأعداء الذين يُريدون فتنته عن دينه، والتحكُّم في أمورِه.
الفائدة الثالثة: هي ألا يحب من يحب إلا من أجل الله، متيَقنًا أن جملة وعده ووعيده حق، فيعتبر الموعود كالواقع؛ لقوة إيمانه بالغيب، وشدة محبته لله ورسوله، ويحب مجالس الذِّكر؛ فإنها روضة من رياض الجنَّة[4]، كما أخبر بها، فيحبها ويألفها، ويتعلَّق قلبه بها، ويستعذب التعَب والمشَقَّة في الوصول إليها، وإذا جلس في المسجد يستحضر كالعيان أن الملائكة تستغفر له، فيستحلي الجلوس ولا يستثقله، ولا يُؤْثِر الخروج لمصالِحه الدنيويَّة على إكمال النوافِل، ومُتممات العبادة، ويستحضر الحور العين أمامه في الجهاد، فيكون شُجاعًا مِقْدامًا صادِقًا في اللقاء، لا يتهرَّب من الجهاد ولا يهرب منه، ويستحضر ما عند الله في كُلِّ مُزاولة؛ فيُؤديه بقوَّةٍ ونشاط مِن أجْل حب الله؛ طمَعًا في الوُصُول إليه ونَيْل ثوابِه، ولا يوالي أو يرْكن إلى سواه أبدًا ليحصل التجمُّع الإسلامي على رضوان الله، وبذلك تَتَمَثَّل القاعدةُ والركيزة الإسلامية في تجمع عضوي حركي يعمل لله، متميز عن المجتمع الجاهلي المادي مهما كان؛ لأنَّ المسلمين إن لَم يتَجَمَّعوا ويَتَحَرَّكوا في حُبِّ الله متميزين عن غيرهم، فإنَّ حياتهم وحركاتهم ستكون تقْوية للمجتمع الجاهلي الذي يعيش حوْلهم؛ لهذا عليهم أن يكونوا متعاونين متكاتفين بروح الإخاء الدِّيني لتنْحصر طاقاتهم في منْفعتِهم.
الفائدة الرابعة: قوله: ((وأن يكره أن يعودَ في الكفر كما يكره أن يُلقى في النار)):
هي الدعامة الثالثة للإيمان، وهي ترْتكز على قوة الإيمان بالغيب؛ باستشعار مُلاقاة الله، وخشية غضبه، وحرمان جنّته، فيكره العودة إلى الكفر المبعِد له عن الله والموصل به إلى النار، كما يكره أن يُلْقى فيها وهو حَي؛ لأنه بقوة يقينه يستحضر النار، فيعتبر الكفر كالنار؛ لأنه موجب لدخولها، ويتحمَّل الشدائد، ويصبر على المكاره في سبيل الثبات على دين الله، ولا يتراخى فيه، أو يُداهن على حسابه، فإذا حصلت هذه الحاسَّة القوية مع تحقيق ملَّة إبراهيم، حصلت القوة المعنويَّة في المسلمين، وامتازوا عن غيرهم.
الخامسة: إيثار الله ورسوله بالمحبة تحصل به قوة على امتثال أوامر الله وتنفيذ حكمه، والابتعاد عن نواهيه، والرِّضا بما يقدره؛ إذ لا يقع أحد في معصية الله إلا لتقصيره في حب الله عندما يُقَدِّم هوى نفسه عليه.
السادسة: كونه يحب المرء لأجل الله فقط، يستلزم أن يكون بغضه لله، فلا يبغض أحدًا إلا من أجل الله، وعلى ذلك يتعين محبة المسلم، وعدم بغضه إلا لسبب شرعي، كالإصرار على معصية كبيرة، أو بدعة لها شأنها، والأفضل توعيته ونصحه وتبصيره، فإن اتبع الحق وسلك السبيل السوي، فحمدًا لله على تحقيق المطلوب، وإلا فالهجر والصد.
السابعة: محبة الله تستلزم الرِّضا بالقضاء، والصبر على البلاء دون تسخُّط، وفي هذا إيمان كامل بأن الله هو الخالق المالك الواهب المتصرِّف، الذي يحسن تصريف كل شيء.
الثامنة: وهي أن يعتقدَ المُحب لله ورسوله أنَّ الله يحبه على قدْر محبته له، ويتقرب منه بما ينفعه عاجلاً أو آجلاً، بقدر ما تقرب هو إليه، وأن ما يصيبه منه رحمة وطبّ وتربية روحية لا يعلمها، وقد يعلمها وتَتَجَلَّى له فوائدها بعد حين.
[1] أخرجه البخاري: (1/ 56) في الإيمان، باب: حلاوة الإيمان، ومسلم برقم (43) في الإيمان، باب: بيان خِلال الإيمان، وأحمد في "المسند"، (3/ 103)، والترمذي برقم: (6/ 29) في الإيمان، باب: (10)، والنسائي: (8/ 96) في الإيمان، باب: حلاوة الإيمان، وابن ماجه برقم: (4033) في الفتن، باب: الصبر على البلاء.
[2] (عمير بن الحمام)، هو عمير بن الحمام بن الجموح بن زيد بن حرام بن كعب بن سلمة الأنصاري السلمي - رضي الله عنه - ممن شهد بدرًا، ولما سمع النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض))، قال عمير: يا رسول الله، جنة عرضها السموات والأرض؟! قال: ((نعم))، قال: بخ بخ يا رسول الله، فقال رسول الله: ((ما يحملك على قولك: بخٍ بخٍ؟))، قال: لا، والله، يا رسول الله، إلا رجاء أن أكون مِنْ أهْلِها، قال: ((فإنك من أهلها))، قال: فأخرج تمرات من جعبته، فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، ثم رمى بها وقاتل المشركين حتى قُتِل؛ انظر: صحيح مسلم برقم: (1901) في الإمارة، باب: ثبوت الجنة للشهيد.
[4] يُشير بذلك إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا مررتم برياض الجنة، فارتعوا))، قلتُ: يا رسول الله، وما رياض الجنة؟ قال: ((المساجد))، قلت: وما الرتع فيها؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر))، وفي رواية مثله: قالوا: وما الرتع؟ قال: ((ذكر الله تعالى)).
أخرجه الترمذي برقم: (3504) في الدعوات، باب: أسماء الله الحسنى، بالتفصيل، ورواه أحمد، والبيهقي في "شُعب الإيمان" من حديث أنس، وهو حديث حسن بشواهده.
يارب
ردحذف