الْعَطَاءُ مِنَ الْخَلْقِ حِرْمَانٌ ، وَالْمَنْعُ مِنَ اللهِ إِحْسَانٌ
الشهيد البوطي ابدع في تأملات هذه الحكمة وقال.
من المعلوم أن الله أقامنا في عالم الأسباب، أي جعل لكل شيء مما يقضي به الله ويخلقه أو يعدمه سبباً، فلا يرد إليك عطاء من الله إلا من خلال سبب، ولا ينقطع عنك رفد أو عطاء إلا من خلال سبب.
فما الفرق إذن بين العطاء الذي يكون من الخلق، والعطاء الذي يكون من الله؟ والسؤال ذاته يرد عن المنع أيضاً.
العطاء من الخلق هو ذاك الذي يأتي بعد استشراف نفس أو بطريق غير شرعي، والعطاء من الله هو ذاك الذي يأتي دون استشراف نفس، وبطريق مشروع، على أن يعلم الآخذ أن المعطي هو الله.
وأما المنع، فالشأن فيه لكي يسمى منعاً، أن يكون بعد محاولة مخفقة للحصول على الممنوع، إذ الشيء الذي لم تبحث عنه لتناله لا يسمى فقدك له منعاً. وكل ما قصرت طاقة الإنسان عن الحصول عليه بعد السعي والمحاولة، إنما يكون المانع للحصول عليه قضاء الله وحكمه عز وجل.
وهذا يعني أن التفريق بين العطاء من الله ومن عباده تفريق اعتباري، إذا مما لا ريب فيه أن العطاء في حقيقته لا يكون إلا من الله تعالى، والناس كلهم، وفي كل الأحوال، ليسوا إلا أسباباً ظاهرية وجعلية له.
فكل ما قد يناله الإنسان بطرق ملتوية غير مشروعة، أو بطمع واستشراف نفس، فهو يعتبر من أعطيات العباد، إذ الآخذ إنما أخذه على أنه كذلك، وإلّا لما أهان نفسه لمخلوق مثله واستشرف لنيل هذا الذي سعى إليه، ولما رغب عن السبيل المشروعة التي رسمها له الله إلى السبل الملتوية الأخرى التي نهى عنها.
وكل ما يناله الإنسان بالوسائل المشروعة، دون طمع ولا استشراف نفس، يعدّ من عطاء الله عز وجل، وهو مظهر لمننه وإكرامه.
وحصيلة هذا التقسيم الاعتباري أن المعطي والمانع دائماً هو الله عز وجل، ولكن هذا التقسيم ناظر إلى أن كل ما قد يناله الإنسان من أعطيات بطرق غير مشروعة، فهو إنما يأخذه بذلك من غير الله عز وجل أي بدون إذن أو رضا منه، وإلى أن كل ما قد يناله من أعطيات بالطرق التي شرعها الله عز وجل، ودون استشراف نفس، فهو إنما يأخذه من الله عز وجل أي بإذن ورضا منه، أما المنع الذي قد يُمنى به الإنسان فهو دائماً من الله عز وجل كما سبق أن أوضحت.
والآن، وبعد أن عرفنا الفرق بين ما سماه ابن عطاء الله: عطاء من الخلق، ومنعاً من الله، نتساءل:
كيف يكون العطاء من الخلق حرماناً، ويكون المنع من الله عطاء؟
وإليك الجواب:
إن الإنسان إذا تكالبت نفسه على المال وعلى الدنيا بأشكالها، واستشرفت أهواؤه ورغائبه إليها، فإن الشأن عندئذ أن يطرق إليها سائر الأبواب، وأن يبحث عنها في مختلف السبل، لا يفرق بين جائز منها ومحرم، وعندئذ قد يحصل على المال الذي يبتغيه ولكنه يُحْرَمُ بركته.
ومعنى ((يُحْرَمُ بركته)) أنه بدلاً من يثمر لصاحبه الهناء والخير، يجرّ إليه آفات متنوعة من الشر، كأن يبعث في نفسه ألواناً من الضيق والهموم، وأن تنفتح في داره أبواب من النفقات لا عهد له بها، تسنتفد كلّ أو جلّ ما جمع، وأن تبعث له أمواله أو دنياه التي حصّل عليها مشكلات عويصة ومعقدة كان بعيداً عنها. وبالجملة تصبح أمواله أو الأعطيات التي حصّل عليها أعباء ثقيلة على كيانه ونفسه، بدلاً مما كان يرجوه: أن تكون أسباباً لخيره وسعادته.
واعلم أن بركة كل شيء إنما هي سرّه الذي يعطيه معنى وجوده.. فبركة الورد، العبقُ المنبعث من داخله؛ وبركة الشمس الحياة أو الطاقة التي تسري منها إلى سائر الأشياء؛ وبركة المطر التفاعل الذي يتم بينه وبين التربة والنواة؛ وبركة النبات وثمارِه، القيمةُ الغذائية المبثوثة في داخلها؛ وبركة اللقاء في الحياة الزوجية، الحب الساري بين قلبي الزوجين؛ وبركة المال، ما قد يحمله إلى صاحبه من معاني الخير والسعادة.. إلخ.
وإذا خلت أشياء الكون من أسرارها، أي من بركتها، فإن الكون كله يغدو كالمدينة المسحورة، ليس فيه إلا أشباح ومظاهر وأشكال جاثمة لا معنى فيها.
ومهما حاولت أن تحيل أشياء الكون ومظاهره إلى ما يسميه بعضهم بالطبيعة، فإنك لا تستطيع أن تحيل أسراره إلّا إلى الله الذي بيده ملكوت كل شيء، ذاك الذي أعطى كل شيء خلقه وشكله، ثم أودع فيه من لدنه سرّه الذي يحدد جدواه ووظيفته. وصدق الله القائل، إذ يصف ذاته العلية فيما قد أبدع ونظم {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ، الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}
أي الذي أعطى كل شيء مظهره الذي أبدعه فيه، ثم هداه إلى المهمة التي خلق لأدائها، عن طريق السرّ الذي أودعه فيه، وصدق الله القائل عن ذاته العلية وما قد أودعه في جوهر التربة وباطن الأرض من أسرار {وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيّامٍ سَواءً لِلسّائِلِين}
وإنما حديثنا في هذا الصدد عن المال وما في حكمه من مظاهر الدنيا وزخارفها، فليست العبرة منه بالشكل أو المظهر الذي يبدو فيه، وإنما العبرة بالبركة المودعة فيه، أي بما يحمله لصاحبه من أسرار السعادة وطمأنينة النفس ومتعة الخاطر.
فإذا جاءك المال من الله، أي بطرقه الشرعية، موقناً بأن المال مال الله وبأن العطاء عطاؤه، كان ذلك بريد خير لك وأداة إسعاد لقلبك وأمن وسرور لنفسك، فكانت بركته موفورة وحظك منه كبيراً.
وإذا جاءك المال من الأغيار، أي بالسبل المتعرجة الخلفية المحرمة، ناسياً أن الله هو مصدر كل رزق وعطاء، معلقاً آمالك بالآخرين، فإنه لن يكون إلا بريد شرٍّ لك، ستحمل منه أعباء مرهقة بدلاً من أن يخفف عنك أعباء الحاجة والرغبات، وسينالك منه الهم الي لا تدري مصدره، ولن يتلبث لديك إلا ريثما يمرّ بك ليغيب عنك، وبذلك تزول بركته وينأى عنك حظه.
وتأمل في هذه الحقيقة كم هي جلية في النصيحة التي نصح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حكيماً بن حزام، في الحديث الذي يقول فيه: سألت رسول الله فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال لي: ((يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بحقه بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى)).
وإذا تأملت في حال هذا الصنف من الناس، أي الذين يلهثون وراء المال، ويسعون إلى تلقفه أينما لاح لهم ومهما كان سبيلهم إليه، تجد مصداق هذا الذي يقوله رسول الله، ويثبته ابن عطاء الله في حكمته هذه. تتأمل في حالهم فتجدهم فقراء في غناهم، محرومين من أبسط ما ينبغي أن يفيده المال صاحبه، وهو طمأنينة النفس وهدوء البال ورغد العيش، فهل يكون للحرمان معنى غير هذا.
والغريب أن صاحب هذا البلاء لا تنهضه نفسه إلى التخلّص منه والتحرر من أخطبوط مصائبه، بل تزداد جموحاً به إلى مخاضة البلاء ذاته!.. فهو كالذي يعاني من عادية الجرب، لا يَفِرّ من بلاء الحك لجسمه إلّا إلى مزيد منه، أو كالذي يشرب ماء ملحاً على ظمأ، ما يكاد يشرب منه الكأس حتى يزداد ظمأ!..
وعن هذا الفريق من الناس يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو كان لابن آدم واد من مال، لابتغى إليه ثانياً، ولو كان له واديان لابتغى إليه ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب)).
ولكن كيف يكون المنع من الله إحساناً؟.. لقد علمت مما ذكرته في أول شرحي لهذه الحكمة أن كل ما قصرت طاقة الإنسان عن الحصول عليه، بعد السعي والمحاولة، إنما يكون المانع من الحصول عليه قضاء الله وحكمه. والمراد بالإنسان هنا المسلم الملتزم بأوامر الله وشرعه.
تُرى، فيم كانت عاقبة السعي والمحاولة من هذا الإنسان المنع الذي قضى الله به؟..
من الثابت يقيناً أن الله لا يريد بعباده المؤمنين به والملتزمين بأوامره إلا الخير، كيف لا وقد ألزم الله ذاته العلية بإسعاد كل من عمل صالحاً بعد الإيمان به، فقال: ((من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن، فلنحيينّه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون)).
ولكن مقياس الخير والشر في حياة الإنسان، لا يتمثل فيما قد تهواه نفسه وتتجه إليه رغائبه، فكثيراً ما تتجه رغائب الإنسان إلى ما فيه حتفه دون أن يعلم. وإنما مقياس ذلك كامن في علم الله عز وجل ولطفه. وصدق الله القائل: {.. وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُون}
إذن، فإن سعيت سعيك إلى خطوة مالية عن طريق تجارة أو صناعة أو نحو ذلك، فعدت من سعيك مخفقاً دون أن تنال ما قد كنت ترغب فيه وتسعى إليه، وكنت ممن يلتزم بأوامر الله وشرعه، فاعلم أن هذا الذي تراه منعاً هو العطاء والإكرام ذاته. ولن تحتاج لمعرفة ذلك إلّا إلى النظر لما سيأتي به المستقبل.
تمهل.. ثم انظر، تجد أن ما قد كتبه الله لك مما لم تكن تريده، هو العطاء ذاته، جاء مغلفاً بغلاف المنع والحرمان، وأنّ ما كنت تحلم به من العطاء الذي كنت تنتظره وتتمناه، لو تحقق على النحو الذي كنت تريد، لجرّ إليك ذيولاً من المصائب والآلام.
إننا جميعاً لو عدنا بالذاكرة إلى أحداث جرت على غير ما كنا نريد في ماضي حياتنا، وماأعقبها من نتائج، لوجدنا مصداق هذا الذي يقرره ابن عطاء الله أخذاً من الحقيقة التي يقررها بيان الله أكثر من مرة.
كنتَ مدعواً إلى أن تداهن، وتماري، وتستذل لأناس من أمثالك أو ممن هم فوقك في الرتبة، لتنال من وراء ذلك خطوة تكسبك مغنماً مالياً أو مكانة باسقة، ولكنك جنّبت نفسك تلك المهانة والذلّ، فحُرمت تلك الخطوة ومنعت من نيل ذلك المغنم؛ إنه في ظاهر الأمر وصورته الحالية منع، وهو منع صادر من الله، إذ الذي دعاك إلى أن تجنب نفسك تلك المهانة وحذرك من المداهنة والمماراة إنما هو الله عز وجل، إذن فالمنع الذي منيتَ به على أعقابه إنما هو من الله عز وجل.. ولكنه منع في الظاهر والحالة الحاضرة فقط.. أما النتائج المتحققة فيما بعد، فلسوف تكون كلها لصالحك.
والذي يرمي إليه ابن عطاء الله من هذه الحكمة
أن يزداد المؤمن ثقة بالله عز وجل
إذ يتعامل معه أي إذ يأتمر بأوامره وينتهي عن نواهيه، وأن لا ينظر إلى إقبال الدنيا إليه وإدبارها عنه
لا أستطيع أن أضيف علي كلام الشهيد شئ غير ان اقولها لكل من يقول هذا ليس زمان هذا الكلام انتم تقولون كلام كبير علينا ونحن لأنفهم منه شئ
انتكاسة العقول في فهم خبايا القلوب ليس له معنى غير أن الذوق قد تم تشويهه
وقد حذرنا ربنا وقال إن السمع والبصر والفؤاد كل اؤلئك كان عنه مسؤلاً يعني حسن النظر وحسن السمع وحسن فؤادك واختار من تحب بعنايه فائقة لأنك ستسئل أتدري معني هذه الكلمه ستسئل
اللهم غيّبناعن كل ماسواك بمراقبتنا الدائمة لك وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك حتى لا ترى معطي الا انت ولا خير الا منك ياكريم ارزقنا قلوبا باكيه خاشعة حاضرة يارحيم
#حكم_ابن_عطاء_الله
#حكم_النوروالسرور
#حكم_ابن_عطاء_الله
#دعاء
#كن_له_يكن_لك
تعليقات
إرسال تعليق